البطريرك ساكو والمرسوم الجمهوري

المطران بشار وردة، رئيس اساقفة الكلدان – أربيل – العراق

ما هي المشكلة؟

اختار الرئيس الحالي لجمهورية العراق إلغاء مرسوم جمهوري سبق أن وضعه الرئيس السابق جلال طالباني. وكان هذا القرار الرئاسي قد نصب البطريرك ساكو بطريركا وزعيما للكنيسة الكلدانية. وكان مبرر الإلغاء من قبل الرئيس هو أن المرسوم، في وقت صدوره، لم يكن له أساس دستوري لأن هذه المراسيم مخصصة لموظفي الدولة المعينين من قبل الحكومة العراقية.  وعلى هذا النحو، كان المرسوم الأصلي يفتقر إلى الأساس القانوني اللازم وقت صدوره، وأكد الرئيس أن إلغاءه للمرسوم كان بالتالي تصحيحيا بطبيعته. الحقيقة هي أن البطريرك ليس معينا من قبل الحكومة ولا موظفا حكوميا. وفي الوقت نفسه، لا تزال الكنائس تتمتع بالادارة الذاتية والسلطة القانونية لإدارة أوقافها وشؤونها بشكل مستقل وفقا للمادة 43 من الدستور العراقي، والتي تسبق المرسوم المعني وتستمر بكامل قوتها.

ما الذي أدى إلى قرار الرئيس بشأن المرسوم؟

قبل بضعة أشهر، طلب بطريرك الكنيسة الآشورية وبطريرك الكنيسة الآشورية القديمة مرسوما مماثلا من الرئيس، وهو ما تم رفضه صراحة. وأوضح الرئيس أن هذه الأنواع من المراسيم ليس لها أساس دستوري لأن الكنيسة تنتخب قادتها الفرديين وليس الحكومة. كما أوضحت رئاسة الجمهورية قبل بضعة أيام أن إلغاء مثل هذه المراسيم لا يؤثر على الوضع القانوني لأي رئيس كنيسة بأي شكل من الأشكال.

وأوضح مكتب الرئاسة في بيان لاحق أن جميع المراسيم الرئاسية تنطبق عادة على موظفي الدولة، في حين أن رؤساء الكنائس ينتخبهم أساقفة كنائسهم، ويصادق عليها الفاتيكان[1]، وليسوا موظفين حكوميين. الكنيسة مستقلة عن الدولة وتدير أوقافها ومؤسساتها الدينية بحرية بموجب الدستور العراقي. حارس الوقف هو الرئيس الكنسي.

ما هو السياق التاريخي لهذه المراسيم؟

تعود أصول هذه المراسيم إلى العصور الإسلامية المبكرة، حيث كان الخليفة يصدر تقليديا فتوى تكلف البطريرك بالإشراف على الأحوال الشخصية للمسيحية، وفقا لقوانين وأعراف الكنيسة المعتمدة. اقترن ذلك بمسؤولية جمع الجزية للخزانة كممثل للخليفة. ومع ذلك، غالبا ما أدت هذه الممارسات إلى انتهاكات لحقوق المسيحيين، حيث أصدر الخلفاء أحيانا مراسيم تعسفية.

وقد تم نقل هذه الممارسات من قبل الخلفاء المسلمين وتبنتها الإمبراطورية العثمانية في وقت لاحق في نظام “الملة” الخاص بهم. في هذا النظام، اعتبر السلطان العثماني البطريرك مسؤولا عن الطائفة المسيحية، ويصدر فرمانا يضمن احترام البطريرك ويوسع سلطته لتشمل الرؤساء الدينيين تحت قيادته. كما منح هذا المرسوم السلطة الزمنية على السكان المسيحيين للبطريرك، الأمر الذي طرح بمرور الوقت مشاكل كبيرة للبطريرك والكنيسة وأتباعهم على حد سواء. كما تم تحميل البطريرك المسؤولية عن أفعال أتباعه، وواجه مساءلة شديدة عنهم. من المهم أن نلاحظ أن هذه السلطات الزمنية كانت إدارية في المقام الأول وليست سياسية.

أنا شخصيا أرى هذه المراسيم كانتهاك واضح لحقوق الإنسان، لأنها تعامل غير المسلمين كأهل ذمة، وتجبرهم على دفع ضريبة. اعتنق العثمانيون هذه الممارسة، مما جعلها عادة لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. يشار إلى أن مراسيم مماثلة صدرت لزعماء الديانات والطوائف الأخرى.

هل يؤثر إلغاء المرسوم على أوقاف الكنيسة؟

الجواب ذو شقين. تنص المادة 14 من الدستور العراقي على أن “العراقيين متساوون أمام القانون، دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو الجنسية أو الأصل أو اللون أو الدين أو الطائفة أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي”. علاوة على ذلك، تؤكد المادة 41 على أن “العراقيين أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية وفقا لدينهم أو طائفتهم أو معتقداتهم أو خياراتهم، التي ينظمها القانون”. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد الجزء الأول من المادة 43 من الدستور على أن “أتباع كل دين أو طائفة أحرار في: أ. ممارسة الشعائر الدينية، بما في ذلك الشعائر الحسينية، ب. إدارة أوقافهم وشؤونهم ومؤسساتهم التي ينظمها القانون”.

لذلك نحن أحرار في إدارة أوقافنا، وحتى مكتب الوقف المسيحي لا يستطيع التدخل أو إدارة الأوقاف، لأن القانون يلزم المكتب بدعم وتشجيع مدير الوقف، وهو القائد الكنسي.

كيف سيدير رئيس الكنيسة الوقف الآن؟

يجب على وزارة العدل تنظيم ذلك بقانون لإزالة الالتباس غير الضروري واصدار وثيقة تفويض لكل رئيس كنيسة، تمنحهم سلطة إدارة الأوقاف وفقا للقوانين الكنسية بموجب الدستور. وهذا يتماشى مع الدستور العراقي، فنحن المسيحيين لسنا مطالبين بدفع الجزية بل الضرائب مثل أي مواطن آخر. وبالمثل، فإن هذا من شأنه أن يؤكد أن المسيحيين يتعاملون مع الدوائر الحكومية مثل أي مواطن عراقي آخر.

ما هو موقف الفاتيكان من هذه المسألة؟

حتى الآن، لم يصدر أي بيان رسمي أو تعليق من الفاتيكان حول هذه المسألة. إلا أن القائم بالأعمال في سفارة الفاتيكان في بغداد التقى رئيس الجمهورية، الذي شرح أسباب قرار سحب المرسوم، وأن سحب المرسوم لن يؤثر على مكانة البطريرك ساكو. وأكد القائم بأعمال الفاتيكان أن “إدارة ممتلكات الكنيسة – على النحو المنصوص عليه في الدستور العراقي – يجب أن تستمر بحرية من قبل رؤساء الكنائس” وأنه على المستوى العملي، يجب على رؤساء الكنائس توفير التمثيل “أمام المحاكم العراقية والمكاتب الحكومية” بينما “تعلق الهيئة الرسولية على ما إذا كان سيتم ضمان ذلك بموجب مرسوم رئاسي أو بطريقة أخرى مناسبة”.

هل يمكن أن تكون هناك دوافع أساسية أخرى لإصدار هذا المرسوم؟

وفي نقاش أجري مؤخرا مع قناة عراقية محلية، ألمح البطريرك ساكو إلى أن إلغاء هذا المرسوم كان بطلب من النواب المسيحيين في مجلس النواب، ولا سيما أولئك الذين ينتمون إلى كتلة بابليون. كما أشار إلى أن إلغاء المرسوم حدث متزامنا مع عودة الرئيس من زيارة رسمية إلى الفاتيكان، وهي زيارة لم يحدث خلالها اجتماع مع البابا بسبب صحة البابا. انتشرت شائعات بأن البطريرك هو الذي ألغى هذا الاجتماع، وهو تاويل ندحضه تماما.

مع المناخ السياسي السائد في العراق، تحمل جميع الأحداث مضمونا سياسيا ضمنيا. تستغل جميع الجماعات السياسية كل فرصة لإحداث الفوضى داخل الإطار السياسي، وتسعى إلى كسب دعم الجمهور ووضع نفسها في مواجهة الأحزاب السياسية المنافسة. وبالتالي، من الحكمة أن يتعامل الرئيس مع هذا الوضع بتكتم، وأن يتواصل مباشرة مع رؤساء الكنائس، وأن يحبط الفصائل السياسية من الاستفادة من هذه الأوضاع لتحقيق مكاسب سياسية وإعلامية شخصية.

ما الذي دفع البطريرك إلى مغادرة قاعدته في بغداد؟

وفي رسالة موجهة إلى رئيس الجمهورية، أعرب البطريرك عن إحباطه من الاستدعاء المستمر إلى مركز الشرطة، بتحريض من حركة بابليون. اتهمت حركة بابليون البطريرك بالافتراء والتشهير. واتهم البطريرك، في مؤتمر عقد في مقره في بغداد في مايو 2023، الجماعة بالفساد وإساءة استخدام السلطة واغتصاب الممتلكات المسيحية. أدى ذلك إلى قيام الأعضاء برفع دعاوى قضائية في محاكم بغداد ضد البطريرك، وبعد ذلك اضطر البطريرك إلى تقديم نفسه شخصيا إلى الشرطة. واستجابة لهذه الاستدعاءات المتكررة، التي اعتبرها البطريرك تهديدات ضده وضد الكنيسة، اختار الانتقال إلى كردستان.

هل هناك أي فرصة لحل هذه القضايا القائمة؟

أشك في أن الرئيس سيعيد النظر في قراره، خاصة أنه أكد قانونية سحب المرسوم. أما القضايا المرفوعة ضد البطريرك في المحاكم المدنية، فإما أن تتطلب التسوية مع حركة بابليون، مما يؤدي بهم إلى سحب شكاواهم، أو استمرار إجراءات المحكمة.

كيف يمكن التخفيف من هذه الظروف؟ ما هي الخطوات التي يمكن أن تتخذها الحكومة العراقية لإراحة المسيحيين؟

يمكن أن تؤدي زيارة رئيس الجمهورية إلى البطريرك في مكان إقامته إلى تعزيز تأكيداته السابقة على احترام العراق واعترافه بأهمية البطريرك ساكو الدينية والوطنية والدولية.

بالإضافة إلى ذلك، سيكون من المفيد أن تصدر وزارة العدل بسرعة حجج تولية للأوقاف الدينية لجميع رؤساء الكنائس، مما يؤكد للجميع أنه لا توجد خطط للدولة للاستيلاء على هذه الأوقاف الكنسية.

ومن الأهمية بمكان حماية هذه العمليات الإدارية والقانونية من وسائل الإعلام الممولة سياسيا، لأنها غالبا ما تعمل على إثارة المجتمع المسيحي بشائعات وقصص وهمية غير حقيقية، مما يثير القلق على نطاق واسع.

هل هناك مخاوف بين المسيحيين بسبب هذه الظروف؟

ومن المؤكد أن هذا الوضع برمته يديم مناخ الخوف بين بعض الناس.  تأتي معظم هذه القصص من ظل حملات وسائل التواصل الاجتماعي المتعمدة.  “الأخبار” التي تنتج بعد ذلك، سواء كانت حقيقية أو ملفقة، تؤدي بدورها إلى أسئلة ومخاوف من الناس. أنا شخصيا أناشد الناس أن يبقوا هادئين وأطلب منهم التفكير المنطقي في كل ما يسمعونه، لأن الانقسامات في العراق تعمل دائما في محاولة لإثارة مخاوف الناس لإسقاط الجانب الآخر.

وفي الوقت نفسه، فإن مؤمني الكنيسة في العراق يكنون احتراما وتقديرا كبيرين للكاهن والأسقف والبطريرك والراهبة. عندما يشاهد شعبنا ويسمع الحملات الإعلامية التي تؤثر على الكنيسة، ويقرأ مقالات بلغة شعبوية تحريضية من الكتاب، فإن ذلك يجعل الناس قلقين للغاية وخائفين على مصيرهم. لذلك، يجب على جميع الأطراف استخدام وسائل الإعلام بمسؤولية.  من جهتي، أحاول إبعاد هذه القضايا عن الاستغلال الإعلامي حتى تتاح للقرار الصادق فرصة لاتخاذ مساره الصحيح

.المطران بشار وردة


[1] في حالة الكنائس الكاثوليكية